«لماذا؟» هو السؤال الأنسب دائماً لمعرفة ما خلف الصور التي تشغلنا، الأفعال وحتى الأشكال. لماذا يبدو الأمر على هذا النحو، بينما في مكان آخر يكون على نحو آخر؟ أحدّث نفسي كثيراً حول هذا السؤال، فيما يتعامل غيري مع الأمر، وكأنه أمر مفروغ منه.. فيتعاملون معه فقط.
كلانا على صواب، ولكن لي عقل يتعامل مع الأمور -في الأساس- على اعتبار أنها نموذج لآلاف الحالات التي تكررت وستتكرر مستقبلاً، ومعرفة أسبابها يجعلنا نساهم في دعم أسبابها لتتكرر لو كانت صورة حسنة، ونتجنب تكرار أسبابها لو كانت سيئة.
من الصور التي لم تغادرني إلى الآن، وما زلت أبحث في (لماذا الخاصة بها) ذلك الهدوء الذي كان يملأ عربات المترو التي كنا نتنقل فيها أثناء مكوثنا في اليابان، خصوصاً عند مقارنتها بالضجيج الذي يسود عربات هذا النوع من التنقل في دول أخرى.
يبدو الناس في محطات المترو، وعربات التنقل كأنهم في فيلم صامت، يتحركون بسرعة، ويجلسون بثبات من دون أي حديث. وفي عربات المترو لا يتحدثون في الهاتف، ولا يتناولون أطراف الحديث مع من هم في رفقتهم، ولا يتسببون بأي شكل من أنواع الإزعاج الحركي حتى وهم وقوف، ولا يضحكون، ولا ينظرون إليك.
هناك ثبات مثير للدهشة أثار سؤالي: «لماذا هم كذلك؟».
هناك أسباب تاريخية وثقافية واجتماعية اجتمعت، وأدت إلى هذه الميزة الإنسانية المثيرة حول اليابانيين، والتي جعلت هذا البلد مختلفاً، لا بسبب البنية التحتية والرفاهية -التي ستجدها أبسط مما تتصور- إنما بسبب الإنسان فيها الذي يُعلي من قيمة (wa)، وهي قيمة مركزية تعني الانسجام والتماسك الاجتماعي، وفيه يعطي الأولوية لاحتياج المجموعة على الحاجة الفردية، وترك السلوك الذي يعطل انسجام وسلام المجموعة.
يتعامل اليابانيون مع هذا المفهوم بكل جدية والتزام، لذلك هناك قدر عال من ضبط النفس والتهذيب، خاصة في الأماكن العامة، واستخدام الإشارات بكثرة للتواصل، ونقل المعاني العميقة من دون كلمات، ولذا فهم يُربون صغارهم على أن يفكروا في كيفية تأثير سلوكهم في المجموعة، وتجنب الأفعال التي قد تلفت الانتباه، أو تخلق التوتر داخل المجتمع، والتأكيد على مراعاة مساحة الآخرين، ومشاعرهم.